فصل: قال أبو السعود في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية في الآيات السابقة:

{أولمْ يروْاْ إِلى الطير فوْقهُمْ صافات}
ثم أحال على العبرة في أمر {الطير}، وما أحكم من خلقتها وذلك بين عجز الأصنام والأوثان عنه، و: {صافات} جمع صاقة، وهي التي تبسط جناحيها وتصفهما حتى كأنها ساكنة، وقبض الجناح ضمه إلى الجنة ومنه قول أبي خراش: الطويل:
يحث الجناح بالتبسط والقبض

وهاتان حالان للطائر يستريح من إحداهما للأخرى. وقوله تعالى: {ويقبضن} عطف المضارع على اسم الفاعل وذلك جائز كما عطف اسم الفاعل على المضارع في قول الشاعر: الرجز:
بات يغشِّيها بعضب باتر ** يقصد في أسوقها وجائر

وقرأ طلحة بن مصرف: {أمن} بتخفيف الميم في هذه، وقرأ التي بعدها مثقلة كالجماعة والجند أعوان الرجل على مذاهبه، وقوله تعالى: {إن الكافرون إلا في غرور} خطاب لمحمد بعد تقرير، قل لم يا محمد {أمن هذا}.
{أمّنْ هذا الّذِي يرْزُقُكُمْ إِنْ أمْسك رِزْقهُ بلْ لجُّوا فِي عُتُوٍّ ونُفُورٍ (21)}
هذا أيضا توقيف على أمر لا مدخل للأصنام فيه، والإشارة بالرزق إلى المطر، لأنه عظم الأرزاق، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم: {لجوا} وتمادوا في التمنع عن طاعة الله، وهو العتو في نفور، أي بعد عن الحق بسرعة ومبادرة، يقال: نفر عن الأمر نفورا، وإلى الأمر نفيرا، ونفرت الدابة نفارا.
واختلف أهل التأويل في سبب قوله: {أفمن يمشي مكبا} الآية، فقال جماعة من رواة الأسباب: نزلت مثلا لأبي جهل بن هشام وحمزة بن عبد المطلب، وقال ابن عباس وابن الكلبي وغيره: نزلت مثلا لأبي جهل بن هشام ومحمد صلى الله عليه وسلم، وقال ابن عباس أيضا ومجاهد والضحاك: نزلت مثالا للمؤمنين والكافرين على العموم، وقال قتادة: نزلت مخبرة عن حال القيامة، وإن الكفار يمشون فيها على وجوههم، والمؤمنون يمشون على استقامة، وقيل للنبي: كيف يمشي الكافر على وجهه؟ قال: «إن الذي أمشاه في الدنيا على رجله قادر على أن يمشيه في الآخرة على وجهه».
قال القاضي أبو محمد: فوقف الكفار على هاتين الحالتين حينئذ، ففي الأقوال الثلاثة الأول المشي مجاز يتخيل، وفي القول الرابع هو حقيقة يقع يوم القيامة ويقال: أكب الرجل، إذا رد وجهه إلى الأرض، وكبه: غبره، قال عليه السلام: «وهل يكب الناس في النار إلا حصائد ألسنتهم»، فهذا الفعل خلاف للباب: أفعل لا يتعدى وفعل يتعدى، ونظيره قشعت الريح فأقشع، و{أهدى} في هذه الآية أفعل من الهدى، وقرأ طلحة: {أمن يمشي} بتخفيف الميم، وإفراد {السمع} لأنه اسم جنس يقع للكثير و{قليلا} نصب بفعل مضمر، و{ما}: مصدرية، وهي في موضع رفع، وقوله: {قليلا ما تشكرون} يقتضي ظاهره أنهم يشكرون قليلا، فهذا إما أن يريد به ما عسى أن يكون للكافر من شكر وهو قليل غير نافع، وإما أن يريد جملة فعبر بالقلة كما تقول العرب: هذه أرض قل ما تنبت كذا، وهي لا تنبته بتة، ومن شكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه النعمة أنه كان يقول في سجوده: «سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره»، و{ذرأكم} معناه: بثكم والحشر المشار إليه، هو بعث القيامة، وإليه أشار بقوله: {هذا الوعد} فأخبر تعالى أنهم يستعجلون أمر القيامة، ويوقفون على الصدق، في الإخبار بذلك.
{قُلْ إِنّما الْعِلْمُ عِنْد اللّهِ وإِنّما أنا نذِيرٌ مُبِينٌ (26)}
أمر الله تعالى نبيه أن يخبرهم بأن علم القيامة والوعد الصدق هو مما تفرد الله به، وأن محمدا إنما هو نذير يعلم ما علم ويخبر بما أمر أن يخبر به، وقوله: {فلما رأوه} الضمير للعذاب الذي تضمنه الوعد، وهذه حكاية حال تأتي المعنى: {فإذا رأوه} و: {زلفة} معناه قريبا. قال الحسن: عيانا. وقال ابن زيد: حاضرا، و: {سيئت} معناه: ظهر فيها السوء، وقرأ جمهور الناس: {سِيئت} بكسر السين، وقرأ أبو جعفر الحسن ونافع أيضا وابن كثير وأبو رجاء وشيبة وابن وثاب وطلحة: بالإشمام بين الضم والكسر. وقرأ جمهور الناس ونافع بخلاف عنه: {تدّعون} بفتح الدال وشدها، على وزن: تفتعلون، أي تتداعون أمره بينكم، وقال الحسن: يدّعون أنه لا جنة ولا نار، وقرأ أبو رجاء والحسن والضحاك وقتادة وابن يسار وسلام: {يدْعون} بسكون الدال على معنى: يستعجلون، كقولهم: عجل لنا قطنا، وأمطر علينا حجارة وغير ذلك، وروي في تأويل قوله: {قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا} الآية، أنهم كانوا يدعون على محمد وأصحابه بالهلاك، وقيل بل كانوا يترامون بينهم بأن يهلكوه بالقتل ونحوه فقال الله تعالى: قل لهم أرأيتم إن كان هذا الذي تريدون بنا وتم ذلك فينا، أو أرأيتم إن رحمنا الله فنصرنا ولم يهلكنا من يجيركم من العذاب الذي يوجبه كفركم على كل حال؟ وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص، وعن عاصم: {إن أهلكني الله ومن معي} بنصب الياءين، وأسكن الكسائي وعاصم في رواية أبي بكر الياء في: {معي} وقرأ حمزة: بإسكان الياءين، وروى المسيب عن نافع أنه أسكن ياء: {اهلكني}، قال أبو علي التحريك في الياءين حسن وهو الأصل، والإسكان كراهية الحركة في حرف اللين، يتجانس ذلك، وقرأ الكسائي وحده: {فسيعلمون} بالياء، وقرأ الباقون بالتاء على المخاطبة، ثم وقفهم تعالى على مياههم التي يعيشون منها إن غادرت أي ذهبت في الأرض، ومن يجيئهم بماء كثير واف، والغور: مصدر يوصف به على معنى المبالغة، ومنه قول الأعرابي: وغادرت التراب مورا والماء غورا.
والمعين: فعيل من معنى الماء إذا كثر أو مفعول من العين، أي جار كالعين، أصله معيون، وقيل هو من العين، لكن من حيث يرى بعين الإنسان، لا من حيث يشبه بالعين الجارية، وقال ابن عباس: {معين} عذب وعنه في كتاب الثعلبي: {معين} جار، وفي كتاب النقاش: {معين} ظاهر، وقال بعض المفسرين وابن الكلبي: أشير في هذا الماء إلى بئر زمزم، وبئر ميمون، ويشبه أن تكون هاتان عظم ماء مكة، وإلا فكانت فيها بئار كثيرة كخم والجفر وغيرهما. والله المستعان. اهـ.

.قال أبو السعود في الآيات السابقة:

{أو لمْ يروْاْ} أغفلوا ولم ينظُروا {إِلى الطير فوْقهُمْ صافات} باسطاتٍ أجنحتهنّ في الجوِّ عند طيرانِها فإنهنّ إذا بسطنها صففن قوادِمها صفا {ويقْبِضْن} ويضمُمنها إذا ضربن بها جنوبهنّ حينا فحينا للاستظهارِ بهِ على التحركِ وهو السرُّ في إيثارِ يقبضن الدالِّ على تجددِ القبضِ تارة بعد تارةٍ على قابضاتٍ {ما يُمْسِكُهُنّ} في الجوِّ عند الصفِّ والقبضِ على خلافِ مقتضى الطبعِ {إِلاّ الرحمن} الواسعُ رحمتُهُ كلّ شيءٍ بأنْ برأهُنّ على أشكالٍ وخصائص وهيأهُنّ للجريِ في الهواءِ، والجملة مستأنفةٌ أو حالٌ من الضميرِ في يقبضن {إِنّهُ بِكُلّ شيء بصِيرٌ} يعلمُ كيفية إبداعِ المبدعاتِ وتدبيرِ المصنوعاتِ. وقوله تعالى: {أمّنْ هذا الذي هُو جُندٌ لّكُمْ ينصُرُكُمْ مّن دُونِ الرحمن} تبكيتٌ لهم بنفي أنْ يكون لهم ناصرٌ غيرُ الله تعالى كما يلوحُ به التعرضُ لعنوانِ الرحمانيةِ ويعضُدهُ قوله تعالى: {ما يُمْسِكُهُنّ إِلاّ الرحمن} أو ناصرٌ من عذابِهِ تعالى كما هو الأنسبُ بما سيأتي من قوله تعالى: {إِنْ أمْسك رِزْقهُ} كقوله تعالى: {أمْ لهُمْ الِهةٌ تمْنعُهُمْ مّن دُونِنا} في المعنيينِ معا خلا أنّ الاستفهامِ هُناك متوجهٌ إلى نفسِ المانعِ وتحققهِ وهاهنا إلى تعيينِ الناصرِ لتبكيتِهِم بإظهارِ عجزِهِم عن تعيينِهِ، وأم منقطعةٌ مقدرةٌ ببل المفيدةِ للانتقال من توبيخِهِم على تركِ التأملِ فيما يشاهدونهُ من أحوالِ الطيرِ المنبئةِ عن تعاجيبِ آثارِ قدرةِ الله عزّ وجلّ إلى التبكيتِ بما ذُكِر، والالتفاتُ للتشديدِ في ذلك ولا سبيل إلى تقديرِ الهمزةِ معها لأنّ ما بعدها منْ الاستفهاميةُ وهي مبتدأٌ وهذا خبرُهُ والموصولُ مع صلتِهِ صفتُهُ كما في قوله تعالى: {من ذا الذي يشْفعُ عِندهُ} وإيثارُ هذا لتحقيرِ المشارِ إليهِ. وينصرُكُم صفةٌ لجندٌ باعتبارِ لفظِهِ، ومن دونِ الرحمنِ على الوجهِ الأولِ إما حالٌ من فاعلِ ينصركُم أو نعتٌ لمصدرِهِ وعلى الثاني متعلقٌ بينصركم كما في قوله تعالى: {من ينصُرُنِى مِن الله} فالمعْنى بلْ منْ هذا الحقيرُ الذي هُو في زعمِكُم جندٌ لكم ينصرُكُم متجاوزا نصر الرحمنِ أو ينصرُكُم نصرا كائنا من دونِ نصرِهِ تعالى أو ينصرُكُم من عذابٍ كائنٍ من عندِ الله عزّ وجلّ. وتوهمُ أنّ أمّ معادلةٌ لقوله تعالى: {أولمْ يروْاْ} إلخ مع القول بأنّ منِ استفهاميةٌ مما لا تقريب له أصلا. وقوله تعالى: {إِنِ الكافرون إِلاّ في غُرُورٍ} اعتراضٌ مقررٌ لما قبلهُ ناعِ عليهِم ما هُم فيهِ من غايةِ الضلالِ أي ما هُم في زعمِهِم أنّهم محفوظون من النوائبِ بحفظِ آلهتِهِم لا بحفظِهِ تعالى فقطْ أو أنّ آلهتهُم تحفظهُم من بأسِ الله إلا في غرورٍ عظيمٍ وضلالٍ فاحشٍ من جهةِ الشيطانِ ليس لهُم في ذلك شيءٌ يعتدُّ بهِ في الجملة. والالتفاتُ إلى الغيبةِ للإيذانِ باقتضاءِ حالِهِم للإعراضِ عنهُم وبيانِ قبائِحِهِم لغيرِهِم. والإظهارُ في موقعِ الإضمارِ لذمِّهِم بالكُفرِ وتعليلِ غرورِهِم بهِ. والكلامُ في قوله تعالى: {أمّنْ هذا الذي يرْزُقُكُمْ إِنْ أمْسك} أي الله عزّ وجلّ {رِزْقهُ} بإمساكِ المطرِ وسائرِ مباديهِ كالذي مرّ تفصيلُه خلا أنّ قوله تعالى: {بل لّجُّواْ في عُتُوّ ونُفُورٍ} منبئٌ عن مقدّرٍ يستدعيهِ المقامُ كأنّه قيل إثر تمامِ التبكيتِ والتعجيزِ لم يتأثروا بذلك ولم يُذعنُوا للحقِّ بل لجُّوا وتمادوا في عتو، أي عنادٍ واستكبارٍ وطغيانٍ ونفورٍ أيْ شرادٍ عن الحقِّ.
وقوله تعالى: {أفمن يمْشِى مُكِبّا على وجْهِهِ أهدى} إلخ مثلٌ ضُرِب للمشركِ والموحدِ توضيحا لحالهِما وتحقيقا لشأنِ مذهبيهما، والفاءُ لترتيبِ ذلك على ما ظهر من سوءِ حالِهِم وخرورِهِم في مهاوِي الغرورِ وركوبِهِم متن عشواءِ العتوِّ والنفورِ، وعدمِ اهتدائِهِم في مسلكِ المُحاجّةِ إلى جهةٍ يتوهمُ فيها رشدٌ في الجملة فإنّ تقدم الهمزةِ عليها صورة إنّما هُو لاقتضائِها الصدارة وأما بحسبِ المعنى فالأمرُ بالعكسِ كما هو المشهورُ حتّى لو كان مكانُ الهمزةِ هلْ لقيل فهلْ منْ يمشِي مُكبا إلخ. والمُكِبُّ الساقطُ على وجهِهِ يقال أكبّ خرّ على وجهِهِ وحقيقتُهُ صار ذا كب ودخل في الكبِّ كأقشع الغمامُ أي صار ذا قشعٍ والمعْنى أفمنْ يمشِي وهو يعثرُ في كلِّ ساعةٍ ويخرُّ على وجهِهِ في كلِّ خُطوةٍ لتوعرِ طريقِه واختلالِ قُواه أهدى إلى المقصدِ الذي يؤمُّه.
{أمّنْ يمْشِى سوِيّا} أي قائما سالما من الخبطِ والعثارِ {على صراط مُّسْتقِيمٍ} مستوِي الأجزاءِ لا عوج فيهِ ولا انحراف قيل خبرٌ من الثانيةِ محذوفٌ لدلالةِ خبرِ الأُولى عليهِ ولا حاجة إلى ذلك فإنّ الثانية معطوفةٌ على الأُولى عطف المفردِ كقولك أزيدٌ أفضلُ أم عمروٌ وقيل أُريد بالمكبِّ الأعْمى وبالسويِّ البصيرُ وقيل من يمشِي مُكبا هو الذي يُحشرُ على وجهِهِ إلى النّارِ ومنْ يمشِي سويا الذي يُحشرُ على قدميهِ إلى الجنّةِ {قُلْ هُو الذي أنشأكُمْ} إنشاء بديعا {وجعل لكُمُ السمع} لتسمعُوا آياتِ الله وتمتثلُوا بما فيها من الأوامرِ والنواهِي وتتعظُوا بمواعظِها {والأبصار} لتنظرُوا بها إلى الآياتِ التكوينيةِ الشاهدةِ بشؤون الله عزّ وجل {والأفئدة} لتتفكرُوا بها فيما تسمعونهُ وتشاهدونهُ من الآياتِ التنزيليةِ والتكوينيةِ وترتقُوا في معارجِ الإيمانِ والطاعةِ {قلِيلا مّا تشْكُرُون} أي باستعمالِها فيما خُلقتْ لأجله من الأمورِ المذكورةِ. وقليلا نعتٌ لمحذوفٍ وما مزيدةٌ لتأكيدِ القلةِ أي شكرا قليلا أو زمانا قليلا تشكرون، وقيل القلةُ عبارةٌ عن العدمِ {قُلْ هُو الذي ذرأكُمْ في الأرض} أي خلقكُم وكثركُم فيها لا غيرُهُ {وإِليْهِ تُحْشرُون} للجزءِ لا إلى غيرِهِ اشتراكا أو استقلالا فابنُوا أموركُم على ذلك {ويقولون} من فرطِ عُتوِّهم وعنادِهِم {متى هذا الوعد} أيِ الحشرُ الموعودُ كما ينبئُ عنهُ قوله تعالى: {وإِليْهِ تُحْشرُون} {إِن كُنتُمْ صادقين} يخاطبون بهِ النبيّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين حيثُ كانُوا مشاركين لهُ عليهِ الصّلاةُ والسّلامُ في الوعدِ وتلاوةِ الآياتِ المتضمنةِ له وجوابُ الشرطِ محذوفٌ أي إنْ كنتُم صادقين فيما تخبرونهُ من مجيءِ الساعةِ والحشرِ فبيِّنُوا وقتهُ.
{قُلْ إِنّما العلم} أي العلمُ بوقتِهِ {عند الله} عزّ وجلّ لا يطلعُ عليهِ غيرُهُ كقوله تعالى: {قُلْ إِنّما عِلْمُها عِنْد ربِّى} {وإِنّما أناْ نذِيرٌ مُّبِينٌ} أنذركُم وقوع الموعودِ لا محالة وأما العلمُ بوقتِ وقوعِهِ فليس من وظائفِ الإنذارِ. والفاءُ في قوله تعالى: {فلمّا رأوْهُ} فصيحةٌ معربةٌ عن تقديرِ جملتينِ، وترتيبِ الشرطيةِ عليهِما، كأنّه قيل وقد أتاهُم الموعودُ فرأوهُ فلمّا رأوهُ إلى آخره كما مرّ تحقيقُهُ في قوله تعالى: {فلمّا رءاهُ مستقرا عِندهُ} إلاّ أنّ المقدر هُناك أمرٌ واقعٌ مرتبٌ على ما قبلهُ بالفاءِ وهاهنا أمرٌ منزلٌ منزلة الواقعِ واردٌ على طريقةِ الاستئنافِ. وقوله تعالى: {زُلْفة} حالٌ من مفعولِ رأوْا، إمّا بتقديرِ المضافِ أيْ ذا زُلفةٍ وقربٍ، أو على أنّه مصدرٌ بمعْنى الفاعلِ أي مُزدلِفا، أو على أنّه مصدرٌ نُعت بهِ مبالغة، أو ظرفٌ أيْ رأوهُ في مكانٍ ذِي زُلفةٍ {سِيئتْ وُجُوهُ الذين كفرُواْ} بأنْ غشِيتْها الكآبةُ ورهقها القترُ والذلةُ، ووضعُ الموصولِ موضع ضميرِهِم لذمِّهِم بالكُفرِ وتعليلِ المساءةِ بهِ {وقِيل} توبيخا لهم وتشديدا لعذابِهِم {هذا الذي كُنتُم بِهِ تدّعُون} أي تطلبُونهُ في الدُّنيا وتستعجلونهُ إنكارا واستهزاء على أنّه تفتعلون من الدعاءِ، وقيل هو من الدّعْوى أي تدّعُون أنْ لا بعث ولا حشر. وقرئ تدْعُون، هذا وقدْ رُوِي عن مجاهدٍ أن الموعود عذابُ يومِ بدرٍ. وهُو بعيدٌ.
{قُلْ أرءيْتُمْ} أي أخبروني {إِنْ أهْلكنِى الله} أي أماتنِي، والتعبيرُ عنه بالإهلاكِ لما كانُوا يدعُون عليهِ صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين بالهلاكِ {ومن مّعِى} من المؤمنين {أوْ رحِمنا} بتأخيرِ آجالِنا فنحنُ في جوارِ رحمتِهِ متربصون لإحدى الحُسنيينِ {فمن يُجِيرُ الكافرين مِنْ عذابٍ ألِيمٍ} أي لا ينجِّيكُم منهُ أحدٌ مِتنا أو بقِينا، ووضعُ الكافرين موضع ضميرِهِم للتسجيلِ عليهِم بالكفرِ، وتعليلِ نفي الإنجاءِ بهِ {قُلْ هُو الرحمن} أي الذي أدعُوكم إلى عبادتِهِ مُولِي النعمِ كُلِّها {ءامنا بِهِ} وحدهُ لمّا علمنا أنّ كلّ ما سواهُ إما نعمةٌ أو منعمٌ عليهِ {وعليْهِ توكّلْنا} لا على غيرِهِ أصلا لعلِمنا بأنّ ما عداهُ كائنا ما كان بمعزلٍ من النفعِ والضُّرِّ {فستعْلمُون} عن قريبٍ ألبتة {منْ هُو في ضلال مُّبِينٍ} منّا ومنكُم. وقرئ {فسيعلمُون} بالياءِ التحتانيةِ {قُلْ أرءيْتُمْ} أي أخبرونِي {إِنْ أصْبح ماؤُكُمْ غوْرا} أي غائرا في الأرضِ بالكليةِ وقيل بحيثُ لا تنالُهُ الدِّلاءُ، وهو مصدرٌ وُصِف بِهِ. {فمن يأْتِيكُمْ بِماء مّعِينٍ} جارٍ، أو ظاهرٍ سهلِ المأخذِ. اهـ.